الأحد، 28 يونيو 2015

عود ثقاب..


العود الأول:

أغلَقتُ الباب بهدوء.. و ألقيتُ نظرة أخيرة على بيتنا الصغير، بلعتُ غصّة في قلْبي، ثم ذهبت.. لا ألوي على شيء.. كانَ الوقت قدْ تأخّر، توقفت عند محل بقالة مغلَق، وضعت حقيبَتي الصغيرة بجانِبي و جلستُ أفرك في رأسي شريط ذكرياتي..
يبْدو على أمّي السعادة اليوم فهو الأول لي في المدرسة، و لكنّي لم أكُن.. لا أذكُر أنّي كنت سعيدة يوما. انتَهت أمي من تمشيط شعري الأسود القاتِم، ووضعت لي شريطا ورديا على كل جانب، أدارت وجهي اليها: لا تقلقي صغيرَتي سيكون كلّ شيء على ما يُرَام
لم أشأ أن أنظُر في عينيها حينَها، لأنّي أعلَم يقينا أنّ دمعة ستسقُط على غرار العادة.. تُرى، لماذا تبكي كُلّما تأملّت وجهي. لَيس بي شيء ي أمّي.. صدّقيني.
وصلنا الى المَدرسة، كانت تعج بالفتيات و الفتيان فيهم من في سنّي، و آخرون أكبَر أو أصغَر.. و لكن جميعهم مُختلفون، مختلفون عني بشيء لا أستطيعُ تمييزَه. أرى الفرَح ينُط بين وُجوههم.. و لا يستقر الي أبَدا، كأنّما لا يطمئن لابتسامَتي..
أخذتني أمّي الى احدى الحُجُرات الدراسية الفارغة و طلبت منّي أن أنتظرَها، أخذتُ معقَدا خلفيا، أسندتُ رأسي الى زُجاج النافِذة.. فرأيت الباحة الخلفية للمدرسة مملوءة عن آخرها، الأطفال في كلّ مكان، البعض يلعبُ الغميضة، بعض الفتيات في مثل عُمري يُمسكن أيادي بعض في حلقة كَبيرة و يغُنين سويا.. احداهُن لمَحَتني أراقبهن في وُجوم، ابتسمت لي فارتبكت..  أخفيت وجهي و ضغطتُ على يدي بشدّة لكأني أغرسُ خوفي في راحَتي.
سمعتُ جرَسا يرنّ رنتين مُتلاحقتين، ثم بدأ المكان يمتلأ.. و بدأت نبضاتُ قلبي تتسارَع، لماذا لم تأتِ أمّي.. أخذ كل واحد منهم مقعدا، ثم دخلَت آنسة جميلة ألقت التحيّة و وقفت تتفحص الوجوه التي تعلوها ابتسامة.. أمّا أنا فقد أخفضت رأسي حدّ صدري..
طُرق الباب، و ظهرت سيدة كبيرة يبدو عليها الغَضبْ، و منْ خلفِها.. أمّي بوجه حزين. تكلمت السيدة مع الآنسة بصوت مهموس، ثم نادَتني باسْمي.. ارتبكت هذه المرة أكثَر، و بدأت حُبيبات العَرق تعلو جبيني، عاوَدت مناداتي بصوت مُرتَفع.. سقطت مني دَمعة، مسحتُها بارتعاشة يدي و تقدمت نحوهما..
"تعالي معي" قالت السيدة بصوت غليض، رفعتُ بصري الى أمّي فوجدتُها تُقلب الحُزن بين مُقلتين دامِعتين.. لا أفهمُ ما الذي يحصُل.
في مكتَب المُديرة، كان يجلسُ رجل يرتَدي بذلة أنيقة.. وقفنا أنا و أمّي تُحاوطني بذراعيها، فيما أخذت السيّدة مقعد مكتبِها..
"لا يمكنني قبول هذا ي سيّدي، انظُر اليها"
"أعرِف، و لكنّ والِدتها لا تملِكُ حلا آخر"
كنتُ أنتكسُ دُموعي الى الأرض.. وَ لو أنّي لا أعلَم شيئا عمّا يدورُ حَولي، هكذا تعودتُ أن أبكي كلّما شعرتُ بالخَوف.. الخوف، الشعور الذي يلازُمني منذُ سنواتي الأولى.. يُلاحقني أينَما ذهبت.. يعشش في بؤبؤ عيني، حتّى اذا ما اطمئن قَلبي انقشَع عن طَرفي و صارَ شبحا يلبَس ألوان ما حَولي..
"انها مَريضة ألا ترىَ.. ليست طبيعية بالمرّة
ستُخيفُ الأطفال..."
كُلّ شيء أسوَد.. أبيَض.. رمادي.. لا أدْري، تدُور الوجوه المُخيفة من حَولي.. يزدادُ الطنينُ في أذني " ستخيفُ الأطفال.. ليست طبيعية.. مريضة.. خُذيها الى طبيب.. لا تَلعَبي معي.. اغرُبي عن وَجهي.. لا يهمني أمرُها.. لماذا هيَ هكذا؟
لماذا أنا هكذا..؟
هل أنا مريضة..؟
ماذا أنا..؟

       و أغمي علي، دونَ جوابْ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق